لم يكن أكثر أنصار العدالة والتنمية تفاؤلًا يتوقع هذا الفوز الكبير للحزب في انتخابات الإعادة يوم أمس؛ فخلال أقل من خمسة أشهر على تراجعه الكبير في انتخابات السابع من يونيو الفائت، عاد الحزب إلى حصد أغلبية مقاعد البرلمان بفارق مريح جدًا عن أقرب منافسيه، حاصدًا نسبة تصويت تفوق مجموع أصوات منافسيه الثلاثة الرئيسيين في البرلمان.
ثمة الكثير مما يمكن ويجب أن يقال عن هذه الانتخابات، عن النتائج وأسبابها، وعن دلالاتها السياسية والاجتماعية والمناطقية، وعن المشهد السياسي التركي الجديد، وعن انعكاساتها على عدة ملفات داخلية وخارجية، وعن محاولة استشراف مستقبل التجربة التركية، وغيرها الكثير. لكن اعتبارات المساحة المتاحة للمقال لن تسمح بالكثير، فنكتفي بحديث مقتضب عن الأسباب ثم عن الرابحين والخاسرين في هذه الجولة الانتخابية.
ثمة أسباب كثيرة لهذا التغير الكبير والنصر الحاسم للعدالة والتنمية في فترة زمنية قصيرة نسبيا، نذكر في عجالة أهمها:
1- الاستقرار: يبدو أن العامل الأبرز في تغير قرار الناخب التركي بهذه السرعة هو عامل الأمن والاستقرار في البلاد؛ إذ استطاع العدالة والتنمية فيما يبدو أن يقنع الناخب -خلال الفترة الانتقالية المشحونة بالتذبذبات الأمنية والاقتصادية- أنه هو كحزب عنوان الاستقرار والتنمية في البلاد، وأن فقدانه للأغلبية البرلمانية كان السبب في التدهور الحاصل. قناعة الناخب بهذه الرسالة دفعته كما يبدو للتصويت للعدالة والتنمية خوفًا على مستقبل البلاد قبل أن يكون دعماً وتأييداً للحزب الحاكم.
2- رسالة التغيير: حرص داود أوغلو منذ اللحظة الأولى للانتخابات السابقة على التأكيد على أن رسالة الناخب قد وصلت للحزب بضرورة التغيير والتعديل وأنه يعمل على أساسها، وقد انعكس ذلك فعلاً على قيادات الحزب وخطابه وبرنامجه الانتخابي وقوائم مرشحيه، وكان لذلك أثر بارز في النتيجة.
3- فشل المعارضة: خاصة حزبي الحركة القومية والشعوب الديمقراطي خلال الفترة الانتقالية في كسب ثقة الناخب، بل قدمت صورة سلبية تراوحت ما بين عدم تحمل المسؤولية ورمادية الموقف والإضرار بمصالح البلاد، فكانت النتائج عقاباً لها قبل أن تكون مكافأة للفائز.
4- قانون الانتخاب التركي: وخصوصاً طريقة حساب المقاعد، واعتماد نسبة كل حزب على نسب الأحزاب الأخرى وعلى نسبة المشاركة، وطريقة توزيع أصوات الخارج وغيرها من التفاصيل المعقدة والحسابات الدقيقة التي لعبت هذه المرة لمصلحة العدالة والتنمية، بعد أن كانت قد أفقدته الأغلبية البرلمانية في الانتخابات السابقة بفارق 90 ألف صوت و18 مقعداً برلمانياً فقط.
أما في جزئية الرابحين والخاسرين في هذه الجولة الانتخابية، فسنجد في المجموعة الأولى:
أولًا: تركيا، دولة وشعبًا وليس هذا من باب تصفيف الكلمات أو إطناب المديح الفارغ، بل من باب إدراك أهمية الاحتكام إلى الصندوق والقبول بنتائجه، والقدرة على تنظيم انتخابات بهذه الأهمية والحساسية دون أدنى حادثة قد تشكك في ضماناتها أو نزاهتها، في ظل التوتر الأمني والعسكري في البلاد واللهيب المشتعل في الإقليم وموجة الثورات المضادة في المنطقة. لقد أمنت انتخابات الأمس حالة استقرار تبدو تركيا في أمس الحاجة إليها اليوم.
ثانيًا: العدالة والتنمية، فقد رفع رصيده خلال أقل من خمسة شهور 9 درجات مئوية، حائزًا على ثقة 4.5 مليون ناخب جديد، ورافعًا نسبة التصويت له في كل المحافظات الـ81 وفي المناطق الجغرافية السبع لتركيا، وفشل في إدخال نواب منه للبرلمان في 3 محافظات فقط. يبدو أن كلمة “الاستقرار” التي بنى عليها الحزب حملته الانتخابية كان لها مفعول السحر -أو الخوف- على الناخب التركي فحسم أمره واختار “التمديد” للعدالة والتنمية فترة إضافية حفاظاً على الأمن والاستقرار ومكتسبات السنوات الماضية.
ثالثًا: أحمد داود أوغلو، الذي خلف زعيم الحزب ومؤسسه وفشل في أول انتخابات في المحافظة على تقدمه، ورغم إعادة انتخابه لرئاسة الحزب في مؤتمره العام الخامس قبل أسابيع، إلا أن مياهًا تحت السطح كانت تجري والخلافات والتجاذبات كانت توحي بإمكانية إعادة النظر في رئاسته للحزب إن لم ينجح في الانتخابات. فكانت النتائج تثبيتاً لكرسيه وتكريساً لزعامته، التي ستكون حتماً بالتنسيق مع اردوغان وليس في مواجهته.
رابعًا: أردوغان، فرغم أنه دستوريًا خارج العملية الانتخابية وحلبة التنافس، إلا أنه لا يمكن تجاهل وجوده في قلب الحدث ولو من وراء الستار. لقد كان واضحاً منذ اللحظة الأولى للانتخابات السابقة رغبته في إعادة الانتخابات رغم ما فيها من مجازفة كبيرة، لكنه غامر بقرار الانتخابات المبكرة، ثم كانت له بصمته في اللجنة المركزية الجديدة للحزب الحاكم ولقائمة مرشحيه في الانتخابات، وعليه فيبدو أن سيطرته على الحزب وقيادته لتركيا في الفترة المقبلة ليسا موضع شك أو نقاش.
أما في المجموعة الثانية، مجموعة الخاسرين، فيمكن أن نذكر:
أولًا، حزب الحركة القومية، الذي دفع ثمن السياسة العدمية التي انتهجها رئيسه دولت بهجلي خلال الفترة الانتقالية، رافضا كل الحلول الممكنة، في وقت عانت فيه تركيا من اضطرابات أمنية واقتصادية وسياسية، لكن التراجع كان أكبر بكثير من المتوقع، فتراجعت كتلته البرلمانية إلى المرتبة الرابعة خلف غريمه الشعوب الديمقراطي (رغم تقدمه عليه بنسبة التصويت)، وهو تطور خطير سيكون له ما بعده داخل الحزب وخصوصًا على مستوى قيادته.
ثانيًا، حزب الشعوب الديمقراطي، الذي دفع هو الآخر ثمن فترة انتقالية لم يستطع خلالها اتخاذ موقف واضح من عمليات العمال الكردستاني العسكرية، بل دعا إلى “إدارات ذاتية” في بعض المناطق ذات الأغلبية الكردية جنوب شرقي البلاد. لقد ظهر الحزب تابعاً للقيادات العسكرية في جبال قنديل ومتقوقعاً على العمل السياسي في النطاق العرقي الضيق، وبالتي فشل في إثبات شعاره “حزب لكل تركيا” وخذل داعميه.
ثالثًا، شركات استطلاع الرأي، التي تستحق صدارة قائمة الخاسرين، إذ فشلت فشلا ذريعا في استشراف نتائج الانتخابات أو حتى الاقتراب منها (كما فشل معظمها في توقع الجولة السابقة) وبالتالي فقدت أهميتها ودورها ومصداقيتها.
صحيح أن الذي حصل شكل مفاجأة للجميع وله أسبابه الكثيرة، وأن عملية الاقتراع ديناميكية حيوية متغيرة يصعب الجزم بها، لكن مهمة شركات استطلاع الرأي هي سبر أغوار الآراء واستشراف التغيرات في مزاج الناخب بما فيها التقلبات السريعة.
رابعًا، بعض الأنظمة ووسائل الإعلام العربية، التي ما كان يفترض أن تكون ضمن هذه القائمة ولا داخل التصنيف أصلا، لكنها فضلت في ظل حالة الاستقطاب الحالية في المنطقة أن تقحم نفسها كطرف في المعادلة الداخلية التركية – لدرجة فبركة أخبار خاطئة عن سير الاقتراع ونتائجه – وبالتالي استحقت أن تكون ضمن الخاسرين.
في المحصلة، ليست انتخابات الأمس شريط الختام، بل ربما مجرد شارة البدء في مرحلة جديدة بالنسبة للعدالة والتنمية وتركيا بقيادة الثنائي أردوغان- داود أوغلو، أي أنها فرصة لالتقاط الأنفاس والعمل على مراجعة وتقييم وتعديل مختلف الملفات الداخلية والخارجية دون ضغط الوقت وسيف الانتخابات المبكرة وظل الحكومات الائتلافية الثقيل. وللحديث، خاصة في ملف السياسة الخارجية وقضايا المنطقة، تتمة في مقالات قادمة إذ لا يتسع المقام لها هنا اليوم.