شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

من طبائع السلطة الحديثة: كيف تُفكك الجماعات؟ – محمد إلهامي

من طبائع السلطة الحديثة: كيف تُفكك الجماعات؟ – محمد إلهامي
روى أحمد أمين في مذكراته قصة إضراب للطلبة في مدرسة القضاء الشرعي، قال: "أضربْ فصل من فصول المدرسة لأن الناظر حتم عليه الألعاب الرياضية في مكان معين.

روى أحمد أمين في مذكراته قصة إضراب للطلبة في مدرسة القضاء الشرعي، قال: “أضربْ فصل من فصول المدرسة لأن الناظر حتم عليه الألعاب الرياضية في مكان معين. وكان هذا المكان مشمسا والدنيا حارة، فاستأذن الطلبة أن يلعبوا في الظل، فأبى؛ بحجة أن الطلبة يجب أن يتعودوا الخشونة في العيش والصبر على الشدائد. ولكن الطلبة لم يعجبهم هذا القول فامتنعوا عن اللعب ووقفوا في الظل لا في الشمس. فلما علم الناظر بذلك رُعِب وامتقع لونه، لأن هذه أول حادثة من نوعها. فحضر في حالة عصبية ولكنه كتم غيظه، وطلب من الطلبة أن يصعدوا إلى فصلهم فأبوا، ثم كررها فأبوا، ففكر لحظة ماذا يفعل، ثم رأى أن مخاطبة الجموع غير مجدية، فنادى طالبا بعينه تفرس فيه الخوف والطاعة، وأمره أن يخرج أمام الصف فخرج، ثم قال له: إما أن تصعد إلى فصلك وإما تخرج من باب المدرسة إلى الأبد.

وكل الطلبة كانوا يعلمون من الناظر جده وصدقه والتزامه تنفيذ وعده ووعيده، فإذا قال الكلمة ففداؤها رقبته، فتردد الطالب قليلا، ثم صعد إلى فصله. وتفرس أيضا فنادى الثاني، وقال له ما قال للأول ففعل فعله، ثم نظر إلى الجماعة نظر المنتصر الظافر، وقال لهم: أظن أن لا معنى بعد ذلك للإضراب، انصرفوا إلى فصلكم. فانصرفوا وانكسر الإضراب”.

روى الشيخ أحمد ياسين في حلقات “شاهد على العصر” كيف استطاع اليهود تجريد القرى من السلاح بعد عام 1967م، فقال: “بعدما وصلوا معسكر الشاطئ نادى الميكروفون: “اجمعوا الرجال في الساحة”، طبعاً أنا ما بديش أطلع، لكن قلت بدي أطلع أتفرج، يعني أنا كان ممكن أقول لهم أنا مريض ومش طالع.. ما بديش أطلع لكن قلت لا بدي أروح أطلع وطلعت قعدت في الساحة بين الناس، فبدأ اليهود يجمعون السلاح، بشكل.. الناس مش عاوزين يسلموا السلاح اللي عندهم، فإيجوا وحطونا في ساحة، وإيجوا إلى بيت.. كان بيت قدامنا، قالوا: اسمعوا اللي بنلاقي فيه سلاح البيت بنهدمه بندمره، خدوا بالكوا إحنا بنفتش.. عمالين نفتش في البلد، اللي عنده سلاح يروح يجيبه، واللي ما بيجبوش.. بنلاقي في بيته سلاح بنهدمه، فعلاً ورا المدرسة الأسوار طلعت قنبلة كده ثارت هدمنا بيت، الحرب النفسية الآن بتشتغل إيجوا أمامنا في بيت مافيش فيه حاجة، ما بيسكنش شيء، فحطوا لهم قنبلة في العريشة بتاعته وفجروها، قالوا: ها البيت هذا دمرناه لقينا فيه سلاح، لما عملوا عمليتين تلاتة أمام الناس.. يلا اللي عنده سلاح يقوم يجيبه، الناس قامت وراحوا يجيبوا سلاح، قعدت يعني بدي أنفجر في نفسي ما فيش الوعي الكافي، طب هو بيضحك عليكوا… لقي سلاح قدامك في الدار هذه وجاي يفجرها!! بس بيضحك عليك، وفعلاً سلم كثير من الناس أسلحتهم اللي كانوا مخبيينها”.

ويضيف الشيخ في نفس الحلقة: “الإسرائيليين عادة بيتعاملوا مع الشعوب.. مع الشعب الفلسطيني فرادى ما بيتعاملوش بشكل جماعي، حتى في السجون كانوا ما بيرضوش يتعاملوا إلا فرادى، لكن إحنا فرضنا عليهم إرادتنا غصب عنهم، ولم نتعامل معهم إلا جماعي حسب قيادة منتخبة من فلسطينيين وتواجه اليهود وتحل المشاكل معهم، ما بنتعاملش فرادى في السجون، لكن في الشارع العام صعب أنك تجمع الناس وتحطهم في بوتقة واحدة، وخاصة إحنا ما كناش منظمين قبل الحرب، ما فيش الوضع التنظيمي، ما فيه هذا التنظيم اللي يشد الناس ويعمل المقاومة العنيفة والوحدة.. ما كانش هذا موجود”.

أما تفصيل ما يحدث في السجون الإسرائيلية فقد روى طرفا منها “عبد الحكيم حنيني”، من مؤسسي كتائب القسام والذي قضى في السجون الإسرائيلية تسعة عشر عاما (إبريل 1993 – أكتوبر 2011م)، وقد ذكر كيف استمر نضال الأسرى حتى كسروا إرادة الاحتلال الإسرائيلي في معاملة الأسرى فرادى حتى وصلوا إلى “حياة تنظيمية كاملة”، قال: “حدثونا (الأسرى السابقون) في سنوات السبعينات يوم اعتقلوا كان في بدايات الاعتقال أسرى يعيشون في زنازين مع بعضهم يخرجون إلى ساحة المعتقل، ممنوع اثنين يمشوا مع بعض، ممنوع اثنين يمشوا مع بعض ويتحدثوا في الساحة هذا في بدايات الاعتقال، ممنوع في السجن شيء اسمه تنظيم، ممنوع تعيشوا حياة شيء اسمها تنظيم يعني كل الأسرى الفلسطينيين هم مناضلون ومقاومون ومجاهدون، أبناء تنظيمات فلسطينية يعني ما أجوا من فراغ كلهم أبناء تنظيمات وكلهم أبناء مقاومة، ممنوع تعيشوا حياتكم كتجمع، فُرادى لازم كل واحد نتعامل معه كفرد، حاول المحتل أو إدارة مصلحة السجون أن تفرض على الأسرى الفلسطينيين أن يعملوا في مصانع العدو العسكرية داخل السجون. شوف لوين يعني محاولة الإذلال: إنه يصنع شغلات للجيش شوادر وللدبابات ولكذا واللي زي هيك في السجن طبعاً هذا.

كان رفض مُطلق لذلك في بعض الإجراءات اللي حاولت إدارة مصلحة السجون تطبقها على الأسرى، الأسرى كيف قدروا يقاومون هذه السياسة مثلما قلنا عبر الإضرابات عبر المواجهة، المواجهة العنيفة مع مصلحة السجون، فلذلك وجدت نفسها مصلحة السجون إذا ما بدها تلبي هذه الطلبات للأسرى رايحة تضل عايشة في إيش؟ في توتر وفي صِدام لذلك صارت تتنازل فبدأ الأسرى الفلسطينيين يحققون إنجازاتهم رويداً رويداً… انتزعوا حقوقهم انتزاعا لذلك اللي بدي أصل له إنه حياة تنظيمية في السجن هي انتزعت من إدارة مصلحة السجون انتزاعا بالتضحيات بالمواجهة بالدم بالشهداء بالإضراب عن الطعام لذلك نحن نعيش في تنظيمات كاملة داخل السجن، لكل تنظيم كما قلت غرفه وهو كيف يعني بعيش حياة تنظيمية كاملة”.

كان الفيلسوف الإيطالي إيكو -الذي تحول إلى روائي- يقول: “عندما يتعطل التنظير تبدأ الرواية”، يعني بذلك أن الفكرة التي يعجز المرء عن كتابتها فكرا يمكنه أن يحكيها في رواية، ولذلك تحول هو نفسه من كاتب مفكر إلى روائي، يضع أفكاره في صيغة روائية.

لذلك كانت تلك الوقائع التاريخية الثلاث – الحقيقية وليست الروائية الخيالية – خير تعبير عن طبيعة السلطة الحديثة، تلك السلطة التي توسع “ميشيل فوكو” في تبيين آثارها التسلطية على الإنسان من خلال “تنظيم المجال العام” بحيث يكون الإنسان أسيراً لنظام سلطوي، المدرسة فيه كالمستشفي كالسجن كالمؤسسة الإدارية كالتخطيط العمراني، نظام يحدد طريقة الإنسان في الحياة والسلوك، وهو نظام مؤسس على التعامل مع المواطن الفرد.

إن فلسفة الدولة الحديثة تعجز عن التعامل مع المجموع، ولذلك فهي تؤسس نظاما يحول كل المجموعات إلى أفراد، مواطنين، ويزعجها أي نوع من التكتل القبلي والعشائري، كما يزعجها أي نوع من تدبير المجتمع لشؤونه وأموره بعيدا عن إشرافها وهيمنتها، ولهذا لا تستقر الدولة الحديثة إلا بتدمير كل التكتلات ليتعامل النظام مباشرة مع المواطن الفرد ويتحكم فيه.

وقد شرح تيموثي ميتشل في كتابه “استعمار مصر” كيف تنفر الدولة الحديثة من كل شيء متكتل وعميق وخارج عن سيطرتها:

1. فهي تؤسس لمدن حديثة مفتوحة ذات شوارع واسعة يمكن للسلطة فيها أن تصل إلى كل مواطن بدون عوائق، عكس المدن القديمة الضيقة المتعرجة المتكتلة التي تغلق حاراتها بالأبواب ليلا -أو عند هياج الجند- والتي تختفي فيها النساء في البيوت والتي لا يمكن إنفاذ إحصاء لها والتي تتكافل من داخلها فتعيش بغض النظر عن سلطة الدولة.

ولذلك فإن كل قصة احتلال أو تحديث غربي للبلدان الإسلامية تحتوي فصلا عن هدم المدينة القديمة وإنشاء مدينة حديثة متسعة الطرقات، وفي مصر –مثلا- فإن أول من كسَّروا وأزالوا أبواب الحارات كانوا جنود الحملة الفرنسية، وذلك خوفا من الوقوع في الكمائن ومن تحصن الثوار المصريين خلفها، وهم أول من ألزموا الناس بوضع فوانيس منيرة على بيوتهم ليلا.. وما لم ينجح فيه الفرنسيس نجح فيه فيما بعد محمد علي.

2. وهي تؤسس لتعليم نظامي رتبت طرائقه وأساليبه بحيث يتحول الطالب إلى فرد منفرد منفصل بذاته، لا يكون أبدا جزءا من مجموع التلاميذ كما هي الحال في طرق التعليم القديمة “شيخ العمود”، وتتحكم هي في مناهجه تحكما كاملا، ولقد روى أحمد أمين يروي في مذكراته أن كل كتاب يجب أن يخلو من السياسة خلوا تاما، ولو كان في الشعر والأدب، بل ذكر أن المدرسة كانت تحتاج تصريحا بخلو المصحف من السياسة يأتي من المشرف على وزارة المعارف الإنجليزي “دنلوب”.

3. وهي تسعى لاحتكار كل موارد القوة والنفوذ، سواء أكان السلاح أم الزعامة الشعبية أم نظم التكافل، ويجب أن يكون كل نشاط فيها بتصريح مسبق، ومسجلا في دفاترها، فالمواطن فيها يساوي حقيقة مجموعة من الأوراق.. ولا تغفر لمن يتهرب منها، فمجرد الهروب من التجنيد يستلزم العقوبة، حتى تنتهي إلى الحالة المثالية التي وصفها جوروج أورويل في روايته 1984 وهي “نموذج الأخ الأكبر” الذي لا يرضى بأقل من السيطرة على العقل والنفس.

وهذا من مواضع التناقض بين النظام الإسلامي والنظام الغربي، فالإسلام حريص دائما على تقوية المجتمع وتكتيله وتمتين العلاقات والروابط بين عناصره، ولذلك فكل مجتمع لا يزال يعيش تماسكاً عائلياً وقبائلياً فهو أقرب إلى الإسلام وأبعد عن العلمنة، والعكس بالعكس! ولا يمنع هذا أن النظام الغربي استفاد من المسلمين هذا النظام وإن في سياق هامشي هو تقوية المجتمع المدني.

ولذلك فإن كل سعي لتقوية الروابط بين عناصر المجتمع هو سحب من رصيد السلطة وإضافة لرصيد المقاومة، وبقدر ما تلتصق حركات المقاومة بروابط الأهل والقبيلة والجوار فتظفر بالحاضنة الشعبية بقدر ما يصعب الأمر على السلطة، وبقدر ما يكون المجتمع قويا متماسكا بقدر ما تغل يد السلطة عن الاستبداد به! وهذا الطبع في السلطة الحديثة ومقاومته من أهم وأدق ما ينبغي أن تفقهه حركة المقاومة.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023