خلال الفترة الممتدة من صيف 2013 إلى خريف 2016، راوحت مصائر اليمين الديني في مصر بمكوناته المنتسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية بين معارضة السلطوية الجديدة، ومن ثم التعرض المستمر لعنفها وممارساتها القمعية، وبين الالتصاق بها بحثاً عن شيء من فتات الحضور التشريعي والعوائد التنفيذية، وطلباً للحماية من التهديد الدائم بالتعقب والقمع.
بين القمع والاستتباع تراجع الوزن السياسي لليمين الديني، وتواكب ذلك مع توظيف السلطوية للمؤسسات الدينية الرسمية على نحو ممنهج لإحكام سيطرتها على استخدام الدين في الفضاء العام واحتكاره كمصدر لصناعة شرعية (زائفة) للحكم والحاكم، بعد إنهاء مقارعة الإخوان والسلفيين المعارضين.
وكالنسخ السابقة منها بين 1954 و2011، لم تكتسب السلطوية الحاكمة في مصر اليوم توجهاً علمانياً يريد الفصل بين الدولة والدين، بل، هي لم تخجل أبداً من استدعاء الرموز والمضامين الدينية لتمرير سياساتها ولتبرير عنفها وقمعها، ولم تتوقف عن الخلط العمدي بين مقولات الإخوان والسلفيين والجماعات الجهادية ووصمهم جميعاً بالتطرف والإرهاب. وليس لحديثها المتكرر تارة عن الإصلاح الديني، وأخرى عن الاعتدال الديني من محتوى سوى منع غيرها من استخدام الدين.
في أعقاب انقلاب أطاح برئيس منتخب جاء من بين صفوفهم، وعطل الإجراءات الديمقراطية، تعرض الإخوان المسلمون لعنف رسمي ممنهج وقمع أمني متواصل، قبل أن يعلن الانقلاب عن نفسه في 3 يوليو/تموز 2013، كان الرئيس السابق محمد مرسي ومعاونوه المباشرون من قيادات الصف الأول من جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة الذي أسسته الجماعة في 2011 قد سلبت حريتهم، وزج سريعاً إلى السجون بالبقية المتبقية من القيادات إضافة إلى أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة وحزبها، ومن المتعاطفين معها، ومن قيادات وعناصر الأحزاب السياسية المتحالفة معها كحزب الوسط (تأسس في 2011) وحزب البناء والتنمية (أسسته الجماعة الإسلامية في 2011) وغيرهما.
زج إلى السجون أيضاً بالجماعات السلفية التي قررت، على خلاف آخرين كالدعوة السلفية وذراعها السياسية حزب النور، معارضة الانقلاب والمطالبة بإعادة الرئيس السابق محمد مرسي إلى منصبه.
في الأيام والأسابيع الأولى من صيف 2013، تورطت السلطوية الجديدة في انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان ارتبط أشدها مأساوية بالقتل الجماعي لما يقرب من 1000 شخص عندما فُض اعتصام الإخوان في رابعة العدوية (القاهرة) في 14 أغسطس/آب 2013.
بين 2013 و2016 استمرت عمليات الاعتقال والقبض العشوائي ضد أعداد كبيرة من المواطنات والمواطنين، بادعاء انتمائهم إلى جماعة الإخوان أو دفعاً بممارستهم للعنف والأعمال الإرهابية.
بل تزايدت خلال السنوات الثلاث الماضية جرائم القتل خارج القانون والاختفاء القسري والاعتقال لأسباب سياسية التي أسقطت ضحاياها بين صفوف الإخوان والمتعاطفين معهم، واتسع نطاقها تدريجياً ليشمل طلاباً وشباباً وعمالاً وصحفيين من معارضي السلطوية الجديدة والمدافعين عن حقوق الإنسان والحريات.
وأسفر كل ذلك القمع عن تورط مجموعات من المنتمين للإخوان والسلفيين المعارضين في أعمال عنف وإرهاب هزت البلاد وما زالت، وكأننا أمام نبوءة سوداء تتحقق ويتحمل ثمنها الباهظ المجتمع؛ لأن العنف والقمع الرسميين ليس لهما أن يستدعيا بين بعض الضحايا سوى عنفاً مضاداً وخروجاً على القانون.
بجانب العنف الرسمي الممنهج والقمع الأمني المتواصل، وظفت السلطوية الجديدة كل ما في جعبتها من أدوات قانونية وقضائية لحصار جماعة الإخوان والجماعات السلفية المعارضة. أعلنت جماعة الإخوان جماعة إرهابية وحلت وألغت رخصة حزبها السياسي حزب الحرية والعدالة، شكلت لجنة تنفيذية لحصر “أموال الإخوان”، وإحالة التصرف بها إلى الحكومة.
أغلقت الكثير من وسائل الإعلام الصحفية والتلفزيونية التي كانت تتبع اليمين الديني، ولم تقدم فروض الولاء والطاعة للحكام الجدد.
أديرت أيضاً عمليات تقاضٍ سريعة ومتعاقبة ضد قيادات الصف الأول للإخوان والسلفيين المتحالفين معهم أو المعارضين وضد آلاف المعتقلين والمسلوبة حريتهم، وصدرت دون مراعاة لضوابط التقاضي العادل الكثير من الأحكام الشريعة والجماعية.
تدريجياً، انتقلت السلطوية الجديدة من تعقب اليمين الديني المعارض إلى تعقب عموم المعارضين في ذات السياقات وبنفس الأدوات، فزجت برجال أعمال امتنعوا عن تقديم الدعم المالي لـ”مشروعاتها الكبرى” إلى لجنة حصر أموال الإخوان وبصحفيين ونشطاء إلى محاكمات صورية.
بين 2013 و2016 أسفرت عوامل قمع وتعقب الإخوان والحصار القانوني والقضائي والمالي المفروض على الجماعة عن ارتحال من استطاع الهرب من قيادات الصف الأول والكثير من القيادات الوسيطة وبعض الأعضاء الفاعلين في الهياكل التنظيمية العلنية للجماعة وللحزب، وتراوحت وجهات الارتحال بين قطر والسعودية وتركيا وبعض العواصم الغربية.
وتواكب كل من التعقب والحصار مع هيستيريا العداء للإخوان ومع ترويج السلطوية الجديدة لخطاب الكراهية والتجريم باتجاههم، ورتبت كافة هذه العوامل تراجع الثقل الشعبي والحضور المجتمعي للجماعة بعد أن استبعدت من السياسة التي أغلقت أبوابها أمام الجميع وعادت مساحاتها الرسمية (كالبرلمان) لتهافتها الذي كان جوهر وجودها قبل 2011.
على الرغم من ذلك، يظل الجزم باختفاء الجماعة أو بالانهيار الكامل لقدراتها التنظيمية والجماهيرية أو بنهاية دورها السياسي في مصر بمثابة المبالغة غير الموضوعية.
دون ريب، توالت الانشقاقات داخل الجماعة، إن بين شيوخ وشباب أو بين حمائم وصقور، وأثر ذلك على تراجع القدرات التنظيمية لجماعة عقائدية ومغلقة كجماعة الإخوان، دون ريب أيضاً، لم يحل توظيف شيوخ الإخوان لقوة المال للإبقاء على سيطرتهم على تشكيلات الإخوان في الداخل والخارج بين بعض القيادات الوسيطة والشابة وبين معارضة توجهات وقرارات الشيوخ ومعارضتهم على نحو علني.
بل ذهب البعض بين القيادات الوسيطة والشابة بعيداً في الابتعاد عن خط الشيوخ المتعلق بعدم استخدام العنف وروج لشرعية تبلور مجموعات كحركة “حسم” وحركة “العقاب الثوري” وغيرهما، غير أن مثل تلك الانشقاقات والصراعات الداخلية على المناصب والسياسات المتبعة تظل دوماً متوقعة الحدوث داخل جسد مغلق كجسد جماعة الإخوان، وتزداد احتماليتها في مراحل القمع والتعقب وفي لحظات الحصار الممنهج من قِبل السلطوية الحاكمة.
أما مسارات السلفيين المعارضين ومسارات جماعات كالجماعة الإسلامية وحزب البناء والتنمية أو أحزاب كحزب الوسط، وعلى محدودية قدراتهم التنظيمية والجماهيرية مقارنة بجماعة الإخوان، فلم تختلف عن ذلك الذي حدث للإخوان من واجهة للعنف والقمع والحصار ومن تداعيات سلبية للتعقب إن لجهة تراجع الثقل الشعبي والحضور المجتمعي أو لجهة انتشار الأفكار الراديكالية والأفكار المبررة للعنف بين بعض شباب السلفيين المعارضين، خاصة أولئك المسلوبة حريتهم وراء أسوار السجون وأماكن الاحتجاز.