كان صباحاً عادياً جديداً في السجن، خرجتْ ساعة " التريض " ككل يومٍ أبحث عن جريدة أقرأها أو زميلاً أتحدث معه ونحن نسير في ساحة السجن. انتهيتُ إلى إحدى الزنازين بها بعض الأصدقاء، جلست أتصفح الجرائد التي يسمحوا لنا بها هنا في السجن، تلك التي يُطلِقون عليها "جرائد قومية". وللعلم كل الجرائد أصبحت "قومية" في كذبها المُهذّب أحيانا، والفاجر غالبا والتي تملؤها صور وأخبار "مرشح الضرورة" في حياد إعلامى واضح!.
وبينما أنا أُطالع الجريدة فجأة .. وجدت صوتا من خلفي عند باب الزنزانة يُنادى عليّ ….. إلتفت
وجدته "محمود" من زنزانة "الطلبة"، كان وجهه مُمتقعاً ومُصفرّاً، لا أدرى لماذا انقبض قلبي، تركت جورنال "مرشح الضرورة"، وذهبت … خير يا محمود؟
بدأت عيناه تمتلئ بالدموع, تحشرج صوته وانحبس.. انقبض قلبي أكثر، فسألته: فيه إيه يا محمود ما تنطق!
– فأجاب "أم عُمر" يا أستاذ صاوي …… " أم عُمر " ماتت!
– طب إزاي ؟ وفين!
– عملت حادثة وهي رايحة الجلسة، مرضيناش نقوله امبارح واحنا راجعين، وقولناله النهاردة وهو مُنهار…. تعالى شوفه.
كانت المسافة من زنزانتى إلى زنزانة "الطلبة" كافية لأن تسترجع ذاكرتي "عمر" ، تعرفت عليه عندما حاولنا نحن شباب السجن القيام "بدورة لكرة القدم". كان "عُمر" مُشاركاً فيها، وبحُكم أن زنزانتي بجوار زنزانته كان يسألني عن مواعيد المُباريات والنتائج.
وجههُ طفولى مُريح, إبتسامته صافية ولا تُفارق وجهه النحيل، وهو الطالب بالفرقة الأولى بحقوق القاهرة… تذكّرت حين أخبرني أن أباه وعمّه مُعتقلان أيضاً في سجن آخر! قالها وهو يبتسم إبتسامة مُفتعّلة بمرارة.. أشفقت عليه كثيراً، وسألته حينها عمن ورائهم بالخارج هو ووالده فأجاب بمرارة أشد "أمي"!.
أحببته كثيرًا, كان مُتماسكاً رغم صِغر سنّه وقوياً. تسائلت كثيراً لماذا لا تُثار قضية "عُمر" وزملاؤه "الطلبة" إعلامياً؟
لماذا لا يتحدث عنهم أحد! وقد ضاع منهم أكثر من امتحان ومُستقبلهم مُهدّد؟ فتذكرت أن "عُمر" إخوان……. وإخواننا الثوار وغيرهم لا يعرفون أحداً مُعتقلاً غير "ثلاثة فقط" من أجلهم يتظاهرون ومن أجلهم يُناضلون!.
وصلت إلى زنزانة "الطلبة" تلك الزنزانة التي أحبّها كثيراً, وأجلس مع أصحابها كثيرًا، أحببتها لأنها كانت تُمثل لي مصر الحلم.. مصر الثورة…. مصر ميدان التحرير في الـ 18 يوم الأولى للثورة!.
"عُمر" الإخواني بجوار "صلاح" عضو مصر القوية بجوار "بوشكاش" الاشتراكي، وإلى جانبهم "وليد" الليبرالي، أفكار واتجاهات مُختلفة لكن الكل اسمهم "طلبة"، والزنزانة تُدعى "زنزانة الطلبة" ….. دائماً هتافاتهم بالليل واحدة، دائماً يتحدثون عن حلم واحد، تسمع منهم أغاني الشيخ إمام، وتسمع منهم أيضاً الأناشيد والهتافات الثورية والكل يحفظ، والكل يُردّد… حالة فريدة من التوافق!.
كنت أيضاً أتساءل لماذا يَفسد كل هذا عندما يعود كُلُ إلى " تنظيمه"!
لماذا تُفسِدُهم دائماً كلمات "الكِبار" في كل تنظيم؟
ولماذا دائماً يُحاول أولئك "الكبار" فرض مشاكلهم ورؤاهم عليهم؟!
تسمّرت أمام الزنزانة … نظرت إلى "عُمر" وقد دسّ رأسه بين يديه.. قابلني "وليد" وأخبرني أني لن أستطيع التحدث معه الآن… كان شباب السجن قد أعدّوا ساحة "التريض" كمُصلّى. فقلت "لوليد" سأذهب للساحة، ونُصلّي الجنازة غائب وأقابله هناك لأُعزّيه. في طريقي لساحة الصلاة هربت مني دمعة… فكرت… أمُ تموت وهي ذاهبة لابنها المُعتقل إلى جلسته في المحكمة لتراه دقائق… "أم عُمر"…. "أم عُمر"؟!
نعم تذكّرتها… رأيتها في إحدى الزيارات التي تزاملنا فيها أنا و"عُمر". امرأة أربعينية العُمر دخلت إلى ساحة الزيارة احتضنت "عُمر"…. لا، بل احتضنت كل جزء من أجزاء "عُمر" وكأنّها تطمئن على كل جزء من ابنها شاركت هي يوماً في بناءه. كان يبدو عليها الإرهاق الشديد، تذكّرت أن "عمر" قال لي إنها تذهب إلى والده المُعتقل في سجنٍ آخر أولاً، ثم تأتي إليه هنا…. يا لتلك المرأة المُجاهدة الصابرة، يا لتحمّلِها وقوتها… ابنها، وزوجها! تُرى كيف تشعر؟ كيف تَعُدّ لهما الطعام؟ من يُساعدها!
جالت بخاطري كل تلك الأسئلة وهي واقفة مع "عُمر" في الزيارة وأنا أنظر إليهم من بعيد. رأيتها من بعيد ترمقني بنظرة "أم" باسمة… وترمق كذلك كل الشباب في قاعة الزيارة بنفس النظرة… وكأنّها توزع علينا قليلاً من حنان "الأم" الذي نفتقده جميعنا هنا! وكأنّها احتضنتنا جميعاً, وربتت على أكتافنا قائلة اصبروا فرج الله قريب!
قرأت هذا كلّه في نظرات عينيها، تذكّرت "أم عُمر" إذاً…. ثُمّ …. تذكرّت أنها ماتت!
لا , بل قُتِلت… نعم قتلوها! قتلوها لأن ابنها وزوجها فكروا أن يعارضوا نِظاماً دموياً.
قتلوها لأنها حلِمت أن ترى ابنها، ولو لدقائق معدودة في ساحة محكمة! لم يسمحوا لها بهذا الحق… عربةُ طائشة غفل عنها أمن نظام الانقلاب الدموي؛ لإنشغاله بالقبض على أمثال "عُمر" صدمتّها فماتت.. ماتت ومات معها حُلم أن ترى إبنها لدقائق!
قُتِلت "أم عُمر" ولم يرها "عُمر" ولا "أبو عُمر" للمرة الأخيرة قبل أن تودّع الحياة. ذلك لأن نِظاماً دموياً يرى أنهم خطر على أمنه، واستقراره! فلم يسمح لهم بحضور جنازتها ولا بدفنها!
قتلوا "أم عُمر" وقتلوا فينا أشياء كثيرة هنا معها…. كان مشهد صلاة جنازة الغائب عليها في ساحة "التريض" مَهِيباً ..أمّنّا َ "عُمر", بكينا جميعاً، بكينا بُكاء "العجز"… وما أدراك ما بكاء "العجز".
حين لا تستطيع أن تفعل شيئاً سوى أن تبكي…. يومها تحوّل السجن كلّه إلى سُرادق عزاء كبير مُسربلاً بالحزن والصمت الذي أنهاه "عُمر" بهتافه، وخلفه زُملاؤه الطلبة هتافاً زاد بُكائنا…. وعجزنا!.
عزّيت "عُمر" وتساءلت في طريقي إلى زنزانتي عمن نواجه؟ من هؤلاء؟ هل هم حقاً بشراً… لهم قلوب وعقول البشر!.
وحينما أغلق الشاويش الزنزانة كنت أُردّد: هل هذا وطنُ حقاً؟ هل هذا وطن؟!