مع المجزرة المستمرة في حلب في الشمال السوري منذ أيام طويلة على مرأى ومسمع العالم أجمع، بل ربما بمباركته، علت مرة أخرى نداءات طلب العون والتدخل لإيقاف المحرقة التي يندى لها جبين الإنسانية من دول فاعلة وقادرة أو من أخرى راغبة وقاصرة، وفي مقدمتهم تركيا.
وهو أمر يدفعنا لإعادة تقييم الموقف التركي من الأزمة السورية بتجلياتها الحالية الخطيرة، وفق الثابت من محددات سياستها والمتغير من مسوغاته وأدواته.
ولأن التدخل المندوب/المفترض -كأي عمل سياسي أو فعل ما- عبارة عن إرادة وقدرة، فسأحاول أن أقدم عرضا سريعا للموقف التركي الحالي وإمكاناته تحت هذين العنوانين: الرغبة في التدخل والقدرة عليه.
أما الرغبة التركية فمتوفرة منذ زمن بعيد ومسوغاتها كثيرة، بعضها متعلق بأهمية سوريا في معادلة الأمن والاستقرار التركية داخليا وخارجيا، ومنها ما يتعلق بالنظرة للنظام، ومنها ما هو أخلاقي مبدئي تجاه الشعب ومحنته، ومنها ما هو مرتبط بالمشروع السياسي الكردي الذي يتحدى خطوط أمن أنقرة القومي في شمال سوريا، ومنها ما هو خاص بتهديد تنظيم الدولة من خلال التفجيرات المستمرة أو قصف مدينة كيليس الحدودية شبه اليومي، ومنها ما هو متعلق بالمنافسة والصراع البارد مع كل من روسيا وإيران، ومنها ما يختص بمحاولة وقف تدفق اللاجئين بأعداد كبيرة نحو أراضيها، ومنها ما يدور حول الخشية من انعكاسات الصراع بعيدة المدى، حيث لا أفق واضحا لنهايته.
وعليه، فلا ينقص أنقرة المسوغ للتدخل في سوريا، ليس فقط دعما للشعب السوري أو معارضته، ولكن أيضا حماية لاستقرارها وأراضيها وأمنها القومي. بل لعل هذه المسوغات وصلت حدا غير مسبوق مؤخرا من خلال ارتفاع وتيرة الصواريخ والقذائف التي تستهدف مدينة كيليس، وما تتسبب به من خسائر بشرية ومادية ومعنوية وضغط شعبي ونخبوي على الحكومة التركية.
وأما على مستوى القدرة والإمكانات، فهناك معضلة ماثلة وعميقة ومؤثرة؛ ذلك أن معادلة القوة أو القدرة ذات شقين، عسكري مباشر وسياسي ضامن، وكلاهما متأزم منذ فترة. فتركيا عاجزة عن الطيران فوق سوريا منذ إسقاط المقاتلة الروسية في نوفمبر الفائت، وغير قادرة على تحدي الدب الروسي عسكريا لا جوا ولا برا ولو محدود.
وأما سياسيا فيغيب عنها دعم حليفتها الكبرى واشنطن التي تبدو أقرب لخصمتها موسكو منها في مفارقة ذات دلالة لا تخفى؛ ولعل الدلالة الأقرب زمانا والأعمق معنى هي التوافق الأمريكي – الروسي الأخير على وقف إطلاق النار في عدد من مناطق سوريا باستثناء حلب!!!
في المحصلة، فإن أنقرة تفتقر للقدرة العسكرية على مواجهة موسكو وحدها، وتعوز دعما سياسيا ولوجستيا من حلفائها (واشنطن تحديدا)، يشجعها على المبادرة ويعدل الميزان العسكري غير المتكافئ. حتى إنها ما زالت غير قادرة على مواجهة التهديد المباشر لأمنها الداخلي؛ ممثلا بقصف كيليس بمفردها وبعيدا عن الخطوط الأمريكية الحمراء، فأعلنت قبل أيام على لسان وزير خارجيتها عن اتفاق مع واشنطن لتأمين الحدود التركية، بإبعاد تنظيم الدولة عنها بما يمكن أن يؤسس لمنطقة آمنة مصغرة (في الواقع مجرد منطقة خالية من التنظيم)، وهو الاتفاق الذي ما زال ينتظر تأكيدا أمريكيا لم يصدر حتى الآن، فضلا عن التفسير الأمريكي له، ثم كيفية تطبيقه على أرض الواقع.
أزعم أن تركيا غير مقتنعة بالسقف الأمريكي نظريا، غير قادرة على تخطيه عمليا؛ فتخطي السقف الأمريكي – وتحمل تبعات ذلك – يحتاج إلى شراكات إقليمية ومحلية تعضد الموقف التركي وتحصنه في مواجهة ردات الفعل المباشرة وغير المباشرة.
وهنا، ثمة إحالات إلى التعاون التركي – السعودي الآخذ بالنمو والتطور مع الوقت، الذي يسميه البعض – جزافا وتجاوزا أو أملا وتفاؤلا – تحالفا إقليميا، وما يندرج تحته من تشابكات مع الفصائل الميدانية.
لقد كتبت وذكرت في أكثر من سياق قبلا أن التعاون التركي – السعودي يخطو خطوات جيدة لكنها بطيئة وغير مؤثرة، والسبب في رأيي ليس ما يعتقده البعض من صعوبات لوجستية أو ميدانية فقط، بل أعتقد أن الطرفين ما زالا لم يتجاوزا تماما أزمة الثقة السابقة بينهما، إضافة إلى أمر مهم وحيوي آخر وهو أنهما غير متفقين في الرؤى حول الأزمة السورية وسبل حلها بشكل كامل. وعليه، فما زال الدعم الخارجي/الإقليمي يؤدي عدة أدوار في الأزمة السورية، منها ما هو إيجابي ويساعد على الصمود، ومنها ما هو معيق ويساهم في التشتت، بما يعني استمرار الوضع الحالي دون أفق للخروج منه.
إن جزءا غير بسيط من اللوم يوجه بالتأكيد للفصائل المتناحرة على الأرض، بينما عدوها المشترك يعوم في دمائها ودماء شعبها، لكن الدول الداعمة – أو خلافات الدول الداعمة – مسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذا التشرذم والتصارع الداخلي، ولا يبدو في الأفق إمكان لوقف هذه المعارك الجانبية إلا بتوافق لم يحصل بعد بين الأطراف.
إن اتفاقا تركيا – سعوديا يمكنه أن يوحد ما أمكن من الفصائل العسكرية الموجودة في الميدان (كما دعا الأستاذ مهنا الحبيل في آخر مقالاته)، فضلا عن التوحد السياسي، وسيكون أقدر على تخطي السقف الأمريكي والوقوف بوجه الضغوط الغربية، وسيتيح هامشا أوسع للمناورة وتمرير ولو عدد بسيط من مضادات الطائرات التي يمكنها أن توقف المجزرة، إن لم تستطع تعديل الكفة.
لقد تحولت الثورة السورية منذ فترة طويلة إلى صراع دولي بأدوات إقليمية أو صراع إقليمي بدعم دولي، ولا تتسع مساحة المقال للتذكير بمصالح الدول المختلفة الموضوعة على المحك، لكن المجزرة المستمرة في حلب والمقتلة الكبيرة في أهلها، تستوجب حسابات مختلفة هذه المرة لمنع الحسم لمصلحة النظام وداعميه، والحؤول دون تهجير من تبقى من أهل سوريا منها، وإيقاف عربدة النظام بدعم روسي وتواطؤ أمريكي، وحماية دماء الناس قبل أي شيء آخر.
لعلها الفرصة الأخيرة للشعب والثورة ومستقبل المنطقة، ولعلها الفرصة الأخيرة لإيجاد حل ما في سوريا، ولعلها اللحظة التي ينبغي أن تفرض على الجميع أن يتحمل جزءا ولو بسيطا من فاتورة يدفعها الشعب السوري، دون كبير ذنب له إلا أنه أراد الحرية والكرامة وشجعه الكثيرون عليهما.