هل يجوز لحاكم جاء إلى منصبه بانتخابات حرة نزيهة أن يستبد بالناس ويمارس الطغيان عليهم إذا رأى أن هذا هو الأصلح له؟
هل يجوز للوكيل على الأموال، بما أنه اكتسب ثقة الموكل عنه بلا ضغط ولا إكراه، أن يتصرف في هذه الأموال على رغبته وإن خالفت رغبة صاحب المال؟
بل هل كان يجوز للنبي أو الرسول أن يشرع من عند نفسه طالما أن الإله قد اختاره لتبليغ الرسالة؟ أما قال الله تعالى (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين). والمعنى النبي لو ذكر أقوالا من نفسه وادعى بأنها من عند الله لبطش الله به وقطع شريان قلبه (الوتين) وما استطاع أحد أن يقف أمام عقاب الله
***
نقول هذا في سياق ما بدأنا نراه من اتجاه لدى الأحزاب الإسلامية لكتابة الدستور أولا وقبل انتخابات الرئاسة، ويسري خفية أن حصولهم على ثقة الشعب وأغلبية البرلمان قد يجعلهم مفوضين في تغيير مسار نقل السلطة الذي أقره الشعب في الاستفتاء على التعديلات الدستورية.
ونحن من موقع الناصح الأمين، والمحب المشفق نحذر هؤلاء الكرام الفضلاء من الإقدام على هذه الخطوة، ففيها من الخطر الكثير، وهو خطر يحيق بالوطن ويحيق بصورتهم أيضا، وهذه هي الأسباب:
شرعا لا يجوز للوكيل أو المفوض أو المؤتمن التصرف بغير رغبة صاحب الحق الأصلي، وصاحب الحق هنا هو الشعب، وإرادته التي عبرت عنها نتيجة الاستفتاء تظل أقوى من أي تفويض آخر، لأنها ممارسة مباشرة من صاحب الحق لحقه الأصيل.
أخلاقيا، لا يجوز مخالفة الإرادة الشعبية، وإلا لصار الإسلاميون كالنخبة والتيارات العلمانية التي لا تحترم إرادة الشعب إلا حين توافق هواها، فإن خالفت هواها استكبروا عليها وصدوا عنها وشيطنوها، وهو السلوك الذي قال عنه الإسلاميون أنفسهم قبل ذلك –عن حق- إنه كصنم العجوة، يعبدونه وقت الرخاء فإذا جاعوا أكلوه.. فالله الله في أنفسكم، ودينكم، ورسالتكم.. لا تكونوا كمن نكص على عقبيه، وانهزم في ميدان المبادئ والأخلاق أمام خصمه وإن انتصر عليه في ميدان المعركة.
إن مخالفتكم للإرادة الشعبية وانقلابكم عليها يرسخ ما قيل عنكم من شبهات دائما، وأبرزها أنكم تتخذون الديمقراطية وسيلة للوصول إلى غايتكم ثم تمنعونها، سلما تصعدون عليه ثم تركلونه أو تحرقونه.. حينها سيصدق عليكم –مهما أنكرتم- أنكم "الحزب الوطني فرع المعاملات الإسلامية" وأنه "لا فرق بينكم وبين النخبة إلا اللحية".. وسيكون هذا أكبر إثبات عملي يصب في صالح العلمانية التي ترى أنه لابد من فصل الدين عن السياسة لأن دخول الدين في السياسة يلوثه ولا يطهرها، وهو الأمر الذي طالما جادلنا لإثبات عكسه.. فالله الله في أنفسكم ورسالتكم والأجيال القادمة.
التعديلات الدستورية تنص صراحة على أن رئيس الجمهورية سينتخب قبل وضع الدستور، هذا نص المادة 189، وهذا ما أكد عليه رئيس اللجنة التي وضعت التعديلات المستشار طارق البشري بوضوح في أكثر من لقاء وأكثر من مقال.. بل إن هذا ما أكده اللواء ممدوح شاهين نفسه أول الأمر حين كان يشرح التعديلات الدستورية.. كل هذا الوضوح يجعل من محاولة وضع الدستور قبل الرئاسة إهدارا وانتهاكا لإرادة الشعب، ولا أريد أن أقول: خيانة للشعب، فما زلنا نفترض حسن النوايا.
أيهما تفضل: مجلس عسكري غير منتخب يملك القوة المسلحة يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية كما هو في الإعلان الدستوري؟ أم رئيس مدني منتخب يمارس نفس الصلاحيات ولا يملك أن يكون مستبدا أصلا، لأن الاستبداد يحتاج سنين من السيطرة على مراكز القوة.. فأيهما تفضل؟
صحيح أن المثالية الحالمة تدفع باتجاه انتخاب رئيس على قواعد وصلاحيات محددة في الدستور، لكننا –للأسف- لسنا في الحالة المثالية المستقرة، بل نحن نجاهد لاستخلاص البلاد من الحكم العسكري المستبد، وقد أثبتت الشهور القليلة الماضية أن سياسة المجلس العسكري لا تختلف كثيرا عن سياسات الستين عاما الماضية.. ولو أنك –يا أخي الكريم- تصر على المثالية، فقد كان يجب عليك رفض تكليف المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد (فهذا ليس دستوريا ولا قانونيا) أو أن تشكل أربع حكومات بلا وزير دفاع، أو أن تصدر القوانين والمراسيم من جهة غير منتخبة كالمجلس العسكري.. نحن لسنا في حالة مثالية لكي ننتظر انتهاء الدستور ثم ننتخب الرئيس، نحن في حالة خطر وضرورة.
وضع الدستور قبل انتخاب الرئيس يضعنا بالفعل رهينة في أيدي العسكر عبر أكثر من طريق:
من أراد أن يتخلص من حكم العسكر فليرض بالدستور الذي وضع مهما كانت سلبياته وثغراته.
ومن لم يرض، فلينتظر في ظل العسكر سنين عددا، فالدساتير المحترمة لا توضع في أيام ولا شهور، ويمكننا أن نسرد بعض الأمثلة التاريخية الكثيرة ولكن المقام لا يتسع، ويكفي أن نعرف أن تعديلات المواد التسعة استغرفت من لجنة التعديلات أكثر من عشرة أيام (من 15/2/2011 حتى 26/2/2011 م)، وعليه فإذا لم يعجبك هذا الدستور فأنت في قبضة العسكر لحين تشكيل لجنة أخرى تضع دستورا آخر يعجبك!
العسكر بما يملكونه بالفعل من سلطة وأجهزة قادرون على التأثير على تشكيل لجنة الدستور، وعلى صياغة الدستور، بالأساليب المشروعة وغير المشروعة، وبالترغيب والترهيب، وهذه القدرة تنخفض إذا اكتمل تسليم السلطة قبل صياغة الدستور، فلن يكون لهم وقتها أي شرعية للتدخل والتأثير.
ثم دعنا نتذكر: إذا كنت ترى المصلحة في وضع الدستور أولا، فكيف كنت تحشد الناس للتصويت عليها بنعم في ذلك الوقت؟ وكيف خضت المعارك الكبيرة طوال العام الماضي ليكون الدستور آخرا لا أولا؟.. هل يصح عقلا وخُلُقًا أن تنقلب على مواقفك وتنقض بنفسك كل كلامك وحججك؟.. راجع كلامك أنت –أيها الإخواني والسلفي- في الرد على النخبة وعلى البرادعي وعلى الإعلام الذي وضع كل ثقله خلف دعوة "الدستور أولا"؟.. هل كنت في ذلك الوقت تدرك ما تدركه الآن وتخوض المعركة بالباطل؟؟!!
***
أخي النائب المحترم، في عنقك الآن مصير بلد، وبلد مؤثر في مسار التاريخ، وقد كان من قبلك أناس لم تكفهم حسن نواياهم في الإصلاح فأضاعوا البلاد ستين سنة، وضاعت معها الأمة كلها، ولقد كانت ستين سنة في عمر الزمان وقرونا في عمر الحضارة والتفوق العلمي.
أخي النائب المحترم، لا ينجيك في هذا الموقف إلا أن تجتهد ما وسعك الجهد في استجلاء المصلحة، ثم تجتهد ما وسعك الجهد في المفاضلة بين المكاسب والخسائر، ثم تجتهد ما وسعك الجهد في أن تتجرد لله وتبتعد عن الهوى وحظ النفس لتختار الطريق الصحيح ولو كان صعبا (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته)..
أخي النائب المحترم.. إنا وإياك كالخليفة الراشد، اختاره قومه ليقودهم، فما استقام لهم استقاموا له، فإن رأوا انحرافا نصحوه وقوموه، وما كان له أن يتكبر على نصحهم أو أن يتلبس قول الطاغية (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، بل كان رشده وخيرته في قوله (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها).