لم تكن الطريق الوعرة من مدينة أروشا التنزانية إلى محمية نجورونجورو هي التي تقلقني في يوم صيفي حار في تسعينيات القرن الماضي، بل على العكس، كانت الطريق رحلة في طبيعة إفريقية خلابة: غابات خضراء كثيفة، يطل عليها من بعيد جبل كيلمنجارو بقمته الثلجية البيضاء. هذه هي الطبيعة التي جذبتني إلى إفريقيا منذ كنت طفلا أشاهد مسلسل طرزان.
ما كان يقلقني هو أمر آخر: كيف سأقضي الأيام الثلاثة القادمة في وسط قبيلة الماساي في هذه المحمية الطبيعية النائية عن كل مظهر من مظاهر الحضارة؟
كنت قد بدأت مهنتي الإعلامية مراسلا لقناة الجزيرة في إفريقيا، وكانت هذه الرحلة من أوائل مهامي الصحفية، وبينما كنت أستعد للقيام بالرحلة قرأت عن قبيلة الماساي، وعرفت معلومات كثيرة: فهي قبيلة من الرعاة، يبلغ عدد سكانها قرابة المليون، تستوطن المناطق الحدودية بين كينيا وتنزانيا، تتمحور حياة أبنائها حول امتلاك ورعي البقر، ورغم محاولات حكومية متكررة لحث القبيلة على الإستيطان والانتقال من حياة البداوة والرعي إلى الزراعة، إلا أن أبناء هذه القبيلة لا يزالون متمسكين بنمط حياتهم الفريد، وكانت مهمتي هي في التعرف على الأسباب التي تصرف القبيلة عن الحياة العصرية الحديثة، مؤثرين شظف العيش في غابات نائية وبين حيوانات مفترسة.
يسكن أبناء القبيلة في أكواخ صغيرة لا تتعدى مساحتها ستة أمتار مربعة، وارتفاعها متر ونصف، مشيدة من القش والخشب ومطلية بطبقة من روث البقر، لها باب صغير، وليس لها نوافذ ما عدا فتحة دائرية صغيرة للتهوية، يُستخدم الكوخ للمبيت والطبخ وخزن الطعام والممتلكات، وفيه يحتفظ الماساي بالعجول والماعز حديثة الولادة، وبالطبع لم تكن فكرة المبيت في مثل هذا الكوخ محببة إلى نفسي، فضلا عن أنني كنت متشككا في كيفية الحصول على وجبة طعام مناسبة، فطعام الماساي لحم بقر وماعز، لكنهم يفضلونه نيئا، ويحبون تناول حليب البقر الطازج، والمقلق أنهم يشربون الدم الطازج، من خلال جرح في وريد البقرة، يجمعون منه حاجتهم من الدم، ويطلقون البقرة بعدها لتستأنف حياتها، معتقدين أهمية الدم الطازج للصحة والشفاء من الأمراض.
لباسهم قطعة قماش حمراء فاقعه يلفونها حول أجسادهم بينما يطلي بعضهم وجهه ورأسه بمادة حمراء ذات رائحة نفاذة، وتزين النساء أجسادهن بالخرز الملون، ويحدثن قطعا طويلا في آذانهن من أجل الزينة، أما الرجال فيثبتون أقراصا في جلدة الأذن المدلاة، يستخدمونها غالبا كمحفظة للتبغ.
كان علي أن أمكث في قرية للماساي نائية، حيث لا كهرباء ولا اتصالات، في قلب محمية طبيعية، تتحرك فيها الأسود والحيوانات المفترسة بحرية، ذلك كله كان بالطبع مثار قلق، ليس لأَنِّي لا أحب الطبيعة، بل لأن التعود على نمط أكثر عصرية، بالإضافة إلى ما يعتبره الواحد منا (أسلوب حياة حضارية) لن يتوفر لي في ربوع هذه القبيلة.
كانت هذه الصورة النمطية المسبقة عن نمط حياة الماساي هي ما وجدته بالفعل عندما وصلنا القرية قبيل غروب الشمس، استقبلنا زعيم القرية، الذي يملك مائة وسبعين بقرة، ولديه ثلاثة وثلاثون طفلا من سبعة عشر زوجة، اقتادنا شاب طويل وسيم إلى أحد الأكواخ، قال لنا بفخر أنه حاز لقب محارب بعدما قتل بيديه أسدا ضاريا، كان الكوخ كما تخيلت، صغيرا منخفض السقف، ثقيل الهواء، وضعنا أمتعتنا وخرجنا إلى فناء القرية الرحب لنبدأ الحديث مع بعض رجال القبيلة تحت شجرة وارفة، تنقل بِنَا الحديث عبر ساعات المساء، من تاريخ القبيلة إلى هموم أبنائها المعاصرة، وحول النار المشتعلة في وسط الجلسة، انقدح في ذهني أن للقبيلة منطقا خاصا، وفهما عميقا لهويتها ورسالتها ، بدأت أستمتع بالحوار مع شيوخ القرية، وبدأت أفهم وجهة نظرهم في عزوفهم عن ما نعتبره حياة عصرية، ويعتبرونه شقاء للروح وضياعا لقيم الأسرة والعيش من أجل الجماعة .
حدثونا عن شباب آثروا السكن في المدن، وكيف أنهم خسروا أنفسهم وأهليهم، انغمسوا في دوامة البحث المادي، إكتسبوا عادات مذمومة، تخلوا عن مساندة أبناء قبيلتهم، قال لنا شيخ القرية : ما فائدة أن نغير المظهر إذا كان الثمن هو تغيير الجوهر؟ الواحد فينا محمود إن كان نافعا لأبناء قبيلته، مذموم إن انحدر إلى دوامة حياة أنانية منبتة عن أبناء قبيلته.
قضيت الأيام الثلاثة التالية مستمتعا بالحوار مع شباب القبيلة وشيوخها، كانوا ودودين كرماء، راقبت توقير الصغار للكبار، ولمحت عطف الشيوخ على الشباب، وفي المساء كانت ألحان نشيد الجميع تصدح في جنبات الغابات الكثيفة، فتحيل عتمتها الموحشة إلى أنس وألفة.
هناك تعلمت درسا أساسيا في الصحافة: ينبغي للصحفي أن يتخلى عن أفكاره المسبقة، وأن ينصّب بحثه دوما على محاولة فهم المجتمعات والأمم من داخلها، لأن لكل جماعة إنسانية منطقا وروحا وذاكرة، ولن نستطيع فهم العالم ما لم نقبل حقيقة التنوع هذه، ونكف عن محاولة تفسير الدنيا وفقا لما نعتقده حقا مطلقا، فالصحفي ليس حٓكٓما ولا قاضيا ولا واعظا، بل هو شاهدٌ متأمل، لا يكتفي بنقل المعلومة المجردة، بل يضعها في سياقها التفسيري المفيد .
أستحضر درس الماساي هذا وأنا أرقب بأسى ما آل إليه إعلامنا العربي من توظيف سياسي وإستقطاب أيدلوجي واستعداء وشيطنة، وكأننا جميعا في هذا الواقع المزلزل قد دخلنا في صراع وجودي صفري، الكل فيه قاتل أو مقتول وليس فيه من شاهد ولا رقيب.
المصدر :هافنغتون بوست