هناك حالة كبيرة من التذمر العربي من إيران، وخصوصًا في الخليج العربي، وهو تذمر تختلط فيه معطيات السياسة والمصالح الجيوستراتيجيّة مع الاعتبارات المذهبية والطائفية، ففي الغالب يُنظر إلى إيران باعتبارها دولة شيعية معنية بنشر المذهب الشيعي في مختلف أرجاء العالم أولا وقبل وكل شيء.
ورغم أنه لا يمكن إنكار هذا البعد في السياسة الإيرانية، إلا أن ثمة جملةً من الحقائق المغيبة في هذه القراءة الاختزالية التي تنظر إلى إيران من الزاوية الدينية فحسب وتتجاهل أبعادًا أخرى ينبغي الانتباه إليها.
تظل إيران بدرجة أولى دولة قومية تبحث عن تعزيز مصالحها ونفوذها وهي إحدى الكيانات الإقليمية المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك فهي معنية بتعظيم مكانتها الإقليمية مستخدمة البعد المذهبي أو الطائفي باعتباره جزءًا من السياسة القومية الإيرانية. صحيح أن إيران الخميني وفي ظل اندفاعاتها الثورية الأولى قد غلب عليها بعد الأممية الإسلامية في البداية قبل أن يطغى البعد الشيعي الطائفي بصورة فاقعة فيما بعد، إلا أن منطق الدولة القومية يظل هو المحركَ الرئيسيَّ للسلوك السياسي الإيراني.
لقد أغرى الضعف العربي وتراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة بعد احتلال العراق ثم حالة الانسحاب الفوضوي فيما بعد؛ إيران بمزيد التمدد وتعزيز نفوذها في منطقة رخوة ومليئة بالتناقضات، مستغلة المكونات الشيعية كقاعدة أمامية لتوسيع نفوذها. التقطت إيران الفرصة التي وفرتها الحرب على العراق ثم إخفاقات الأمريكان ومن ثم انسحابهم العسكري لتمتد في الفراغات الحاصلة من خلال زرع رجالاتها المرتبطين بها وإحلال حكم طائفي شيعي يدين لها بالولاء، مع العمل على تغيير الخارطة الديمغرافية العراقية. هكذا، حولت طهران بغداد العاصمة العراقية إلى مدينة شبه شيعية تقريبًا مستغلة خطاب المظلومية الشيعية في حقبة صدام حسين لتمارس مظلومية أشد وأنكى ضد المكونات الاجتماعية العراقية الأخرى، خصوصًا في عهد المالكي الذي اصطبغ بصبغة شيعية طائفية فجة لم يعرف العراق لها مثيلًا على امتداد تاريخه. كما سعت إيران إلى نشر المذهب الشيعي في مناطق مختلفة من المجال الإسلامي السني وربط المجموعات الشيعية الناشئة بها واستخدامها أذرعًا أمامية لتقوية حضورها.
عملت إيران بعد ثورات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة سنة 2011 من تونس ومنها إلى مصر وليبيا على ركوب هذه الموجة واصفة إياها بالثورات الإسلامية الشاهدة على صحة خط الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه. بيد أن انتقال مسار التغيير هذا إلى الحليف السوري قد أربك السياسة الإيرانية فانقلب الخطاب للحديث عن مؤامرة أمريكية إسرائيلية ونزلت طهران بثقلها العسكري والسياسي لدعم بشار الأسد ثم إرسال الأذرع الشيعية في لينان والعراق وأفغانستان وغيرها لتقاتل إلى جانب النظام السوري، ومع دخول الروس على الخط حدث التقاء وتحالف إيراني روسي في سوريا وغيرها من المواقع الأخرى. كما عملت إيران على إعادة التموقع في الساحة اليمنية وعلى أبواب الخليج عن طريق جماعة الحوثي التي تدين لها بالولاء السياسي والديني.
في مقابل هذا الاندفاع السياسي والعسكري الإيراني المبني على تصميم ورؤية في الدفاع عن المصالح القومية وتعزيزها من خلال استخدام الجماعات الشيعية ونسج تحالفات إقليمية ودولية قوية، تشهد الساحة العربية السنية حالة من الفراغ السياسي المريع نتيجة انسحاب الكيانات العربية الوازنة، ثم حالة الانقسام العربي وغياب الرؤية المشتركة. يتذمر العرب من التمدد الإيراني في المنطقة وهم يتخبطون بين الصراعات والانقلابات، مشتتين بلا قيادة ولا وجهة. من تبقى ليلم شعث العرب ويقودهم؟ مصر السيسي مشغولة عن القيادة بحربها الضروس ضد أكبر تيار سياسي بداخلها والعراق غارق في حرب طائفية مستمرة منذ الغزو الأمريكي وسوريا مستنزفة في حرب أهلية تخفي صراعات إقليمية ودولية أكبر، أما دول المغرب العربي فتنحصر مشاغلها في المجال المغاربي الأوروبي بدرجة أولى.. ربما كان الاستثناء الوحيد هو السعودية بثقلها الديني والاقتصادي الذي يسمح لها بتوجيه القاطرة العربية إذا ما توفرت لديها البوصلة السليمة وإرادة تجميع الجسم العربي ورأب صدوعه.
فيما يتخبط العرب في سلسلة من الصراعات والتناقضات الداخلية، تمضي إيران جاهدة لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي بما يخدم مصالحها الخاصة، تُسخّر كل إمكانياتها السياسية والاقتصادية ورصيدها المذهبي لخدمة أهدافها لتتحول إلى قوة إقليمية فاعلة رغم الحصار الذي ضربه ضدها الأميركان منذ بداية ثورتها. في الأثناء، تملأ دول عربية عدة الأجواء ضجيجًا حول الخطر الإيراني الضارب والمد الشيعي الداهم، وهي التي لم تدخر جهدا في السعي لإجهاض محاولات العرب للتحرر والنهوض، وسخّرت جلّ طاقتها لتمزيق الجسم العربي السنّي في معارك عبثية ضدّ تياراته السياسية الكبرى، فمضت تبث الفوضى هنا وتؤجج الصراعات الداخلية والفتن والحروب الأهلية وتدعم الانقلابات العسكرية هناك.
في حين تُلقي إيران بكامل ثقلها السياسي والعسكري والمالي والإعلامي لدعم حلفائها من المجموعات الشيعية العقائدية في نقاط مختلفة من العالم، تنخرط هذه الدول العربية في ضرب المكونات الإسلامية السنية التي تمثل عنصر التوازن الرئيسي مع الإسلام الشيعي في المنطقة، بل وصل غيّها حد تأليب الدول الغربية للتضييق على المنظمات والجمعيات والهيئات العربية الإسلامية المعتدلة وحظرها وملاحقة قياداتها وناشطيها بدل دعمها لخدمة مصالح العرب والدفاع عن قضاياهم.
كفانا بكائيات لا جدوى منها. المشكلة الرئيسية عربية قبل أن تكون إيرانية. الكل يتجند للدفاع عن مصالحه بتصميم وإرادة ورؤية: الأتراك والإيرانيون وحتى الأكراد، كل أمم منطقتنا ما عدا العرب، بقوا تائهين يمضون على غير هدًى يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي غيرهم ولا يجيدون غيرَ الصّراخ والعويل.